العلمانية في الفكر العربي المعاصر ناصيف نصار أنموذجا

Résumé:  مفهوم العلمانية نشا إبّان عصر التنوير والنهضة في أوروبا، في مواجهة الكنيسة، وعارض سيطرتها على الدولة وعلى المجتمع . وكان ذلك إثر الحروب الدينية والنزعات السياسية التي ميزت القارة الأوروبية .  العلمانية بدأت في أوروبا، وصار لها وجود سياسي مع ميلاد الثّورة الفرنسية (1789) ثم عمّت أوروبا في القرن التاسع عشر، وبعدها انتقلت لتشمل معظم دول العالم في القرن العشرين بتأثير الاستعمار والتبشير .  من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى ظهور العلمانية في أوروبا هو التحريف في أصول الدّين، وتسلّط رجال الكنيسة دينيّا واقتصاديّا وسياسيّا ، حيث كانت الكنيسة تفرض سلطتها على المجتمع والدولة.  اتّفق الأغلبية على أنّ مفهوم العلمانية هو رفض أيّة مرجعيّة دينيّة في أيّ مجال من مجالات الحياة، واعتماد العقل والتجربة مصادر وحيدة للمعرفة .  العلمانية مفهوم سياسي يقوم على الفصل بين المجال الدّيني والمجال الدُّنيوي أي فصل الدين عن مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية .  العلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل بعيدا عن الدّين الذي يتم فصله عن الدولة وعن حياة المجتمع، وحبسه في ضمير الفرد، ولا يصرّح عنه إلاّ في أضيق الحدود .  العلمانية كمصطلح أخذت في الشيوع في الوسط الفكري العربي مع أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فأصبح من أهمّ المصطلحات في الخطاب التحليلي الاجتماعي والسياسي والفلسفي الحديث .  من أشهر دعاة العلمانية في العالم العربي وروّادها نجد : عبد الوهاب المسيري، أنور الجندي ، محمد أركون، محمد عابد الجابري، نصر حامد أبو زيد، ناصيف نصّار .  ناصيف نصّار مفكّر لبناني عالج موضوع العلمانية وقدّمه كبديل عقب نقده للتفكير الايديولوجي الذي يقوم على التبعية والخضوع لتاريخ الفلسفة .  لم يخضع ناصيف نصّار للمشكلات الفلسفية وإيديولوجياتها التّي يفرضها الفكر الغربي على الفكر العربي، وطالب بالتخلّص من التبعيّة وضرورة الإبداع والاستقلال الفلسفي والذاتي .  يؤكد ناصيف نصار من خلال مؤلفاته أن الإبداع الفلسفي هو ممارسة الفلسفة وليس التقيّد بتاريخ الفلسفة والانصياع لإيديولوجياته وفلسفاته .  تعرض ناصيف نصّار لنقد التفكير الايديولوجي الذي يقوم على الدمج والتبعيّة، ويدعوا إلى التفكير العلماني والذي يقوم على التمييز بين مختلف المجالات وذلك لرسم طريق الاستقلال الفلسفي .  ناصيف نصّار فيلسوف نقدي بامتياز، لذلك نجده يؤسس لأنموذج تواصلي نقدي، يبدأ بالهدم، من خلال نقد التفكير الايديولوجي الذي لا يسعى إلى الوصول للحقيقة إلاّ بوصفها وسيلة لتحقيق مآرب جماعة محددة، فترهن المعرفة بالمصلحة، ويتأدلج العقل، وتنتهي إلى بناء البديل عن ذلك، إنّه البديل التنويري العقلاني العلمي العلماني، المستند إلى قوة البرهان .  إنّ طبيعة الفلسفة وحدودها ومكانتها ودورها عند ناصيف نصّار يرتبط ارتباطا وثيقا بما يسميه العقلانية النقدية المنفتحة ، والتي تمثل الفرضية الأولى لتأسيس فلسفة عربية معاصرة ومستقلة .  لا تخلو مؤلفات ناصيف نصّار من الحديث حول الايديولوجيا وهو الذي يرفع شعار تحرير القول الفلسفي من شوائب الايديولوجيا ، ويدعو إلى تحقيق الاستقلال الفلسفي والإبداع الذاتي .  يؤكّد ناصيف نصّار على ضرورة التمييز بين نمط التفكير الايديولوجي ونمط التفكير الفلسفي حتى يحتفظ كلّ نمط بهويتّه وحدوده ومنطقته، فلا تقدم الايديولوجيا نفسها على أنها هي الفلسفة ، كما لا يمكن للفلسفة أن تضطلع بالأدوار التي تقوم بها الايديولوجيا.  يتّفق جلّ المعرّفون للايديولوجيا على أنّها وسيلة لتحقيق مصالح معينة لجماعة معينة في ظروف معينة .  جاءت فلسفة ناصيف نصّار ذات طابع فلسفي عقلاني إنساني يهدف إلى الحقيقة المفرغة من أي تأثير ايديولوجي وقوامها النقد والبرهان، وأرضيتها الحريّة بمفهومها الليبرالي الحضاري والتكافلي .  كانت فلسفة نصّار ترفع شعار العقل المنفتح على مختلف المجالات وعلى طاقات الإنسان المختلفة فجاء المشروع النّصاري كمحاولة لانتصار العقلانية بالمعنى المنفتح الذي لا يرى في العقل المجرّد الوسيلة الوحيدة للمعرفة، وكانتصار للعلمانية بمفهومها السياسي ومفهومها التنويري .  يميّز نصّار بين مفهومين للعلمانية : المفهوم الضيّق وهو السائد في المقاربات (المفهوم السياسي)، والمفهوم الواسع وهو الغائب عن المناقشات (المفهوم التنويري) .  العلمانية السياسية مقتصرة على تحرّر الدولة من الدّين، والعلمانية التنويرية تقتصر على تحرّر العقل من كلّ السلطات في مقاربته للحقيقة .  تعلي فلسفة نصّار من شأن العلم والعلماني بالمعنى التنويري الذي يقوم على التمييز بين المجالات المختلفة بين ما هو علمي وما هو ديني، بين ما هو روحي وما هو مادي، وبين ما هو نظري وما هو تطبيقي ، إنّه يقوم على تواصل فلسفي إبداعي أساسه التقاطع بدل القطيعة والتواصل بدل الاتصال أو الانفصال .  يرى نصّار أن الانفصال أو القطيعة أو التحرّر لا يعني القطيعة المطلقة بين العقل والدّين، أو الدولة واللاهوت، وإنّما العلمانية خروج عن هيمنة الدّين، وليست بالضرورة خروج كامل عن الدّين وهي لا تلغي الدّين أو التجربة الايمانية .  يجب أن تتأسس العلمانية على فصل الدين عن الدولة مع مراعاة احترام استقلالية السلطات عن بعضها البعض ، أي أن الفصل لن يكون كلي أو مطلق بل يستلزم مراعاة استقلالية كل سلطة عن غيرها .  النهضة العربية من وجهة نظر نصّار تقتضي بث الثقافة النقدية والتواصل مع تاريخ الفلسفة تواصلا نقديا، والتفكيك الابستيمولوجي لتراثنا (تراث سياسي أو ديني) بتوظيف مناهج العلوم الإنسانية الحديثة والعمل على علمنة كل مجالات حياتنا سياسية ثقافية تربوية علمية اقتصادية ...إنّنا بحاجة إلى فيلسوف ولسنا بحاجة إلى فقيه .

Publié dans la revue: