الدلالة الفلسفية للامقايسة و إشكالية تطور العلم في ظل فلسفة العلوم المعاصرة
2023
Articles Scientifiques Et Publications
ASJP
Autre

Université Abdelhamid Ibn Badis - Mostaganem

ش
شادلي, هواري

Résumé: ملخص: عرفت الدراسات الإبستمولوجية المعاصرة محاورات بين فلاسفة العلم المعاصرين، استخدمت فيها مجموعة من المفاهيم الأساسية من بينها مفهوم اللامقايسة، الذي يشير إلى التحولات الكبرى التي حدثت في العلم والقائمة على النزعة الثورية الداعية للانتقال من أنموذج إلى أخر،فالجماعة العلمية التي تعمل في الأنموذج الجديد لا تشترك في أي شيء مع الجماعة التي كانت تعمل في إطار الأنموذج القديم. لا يمكن حصر الخطاب العلمي في نموذج واحد يدعي لنفسه التفوق عن باقي النماذج الأخرى، فكل نظرية علمية تحمل دلالات تختلف عن تلك التي سبقتها، كما يشير هذا المصطلح إلى دور المجتمع في بناء العلم، فالمنظومات العلمية هي نتاج فكر اجتماعي عام قائم على نسق معين ينتج فعالية من خلال التفاعل الاجتماعي وليس مجهودا فردياً فقط. Abstract: Contemporary epistemological studies have known dialogues between contemporary philosophers of science. A number of basic concepts were used, including the concept of asymmetry; the term came to refer to the major transformations that occurred in science, which showed that science is based on the revolutionary tendency calling for a transition from one model to another. The scientific group that operates in the new model does not have anything in common with the group that was working within the framework of the old model; the scientific discourse cannot be confined to one model that claims to be superior to the rest of the other models. Each scientific theory carries connotations that differ from those that preceded it; this term also refers to the role of society in building science. Scientific systems are the product of general social thought based on a specific pattern that produces effectiveness through social interaction and not an individual effort.

Mots-clès:

الكلمات المفتاحية: اللامقايسة – الإبستمولوجية- الأنموذج- النظرية العلمية- التحول الشمولي.
الدلالة الفلسفية للامقايسة و إشكالية تطور العلم في ظل فلسفة العلوم المعاصرة
The Philosophical Connotation of Asymmetry and the Problem of the Development of Science in the Light of Contemporary Science Philosophy
د: شادلي هواري
[email protected]جامعة سعيدة د/مولاي الطاهر
ملخص:
عرفت الدراسات الإبستمولوجية المعاصرة محاورات بين فلاسفة العلم المعاصرين
استخدمت فيها مجموعة من المفاهيم الأساسية من بينها مفهوم اللامقايسة
الذي يشير إلى التحولات الكبرى التي حدثت في العلم والقائمة على النزعة الثورية الداعية للانتقال من أنموذج إلى أخر
فالجماعة العلمية التي تعمل في الأنموذج الجديد لا تشترك في أي شيء مع الجماعة التي كانت تعمل في إطار الأنموذج القديم.
لا يمكن حصر الخطاب العلمي في نموذج واحد يدعي لنفسه التفوق عن باقي النماذج الأخرى
فكل نظرية علمية تحمل دلالات تختلف عن تلك التي سبقتها
كما يشير هذا المصطلح إلى دور المجتمع في بناء العلم
فالمنظومات العلمية هي نتاج فكر اجتماعي عام قائم على نسق معين ينتج فعالية من خلال التفاعل الاجتماعي وليس مجهودا فردياً فقط.
الكلمات المفتاحية: اللامقايسة – الإبستمولوجية- الأنموذج- النظرية العلمية- التحول الشمولي.
Abstract:
Contemporary epistemological studies have known dialogues between contemporary philosophers of science. A number of basic concepts were used
including the concept of asymmetry
the term came to refer to the major transformations that occurred in science
which showed that science is based on the revolutionary tendency calling for a transition from one model to another.
The scientific group that operates in the new model does not have anything in common with the group that was working within the framework of the old model
the scientific discourse cannot be confined to one model that claims to be superior to the rest of the other models. Each scientific theory carries connotations that differ from those that preceded it
this term also refers to the role of society in building science. Scientific systems are the product of general social thought based on a specific pattern that produces effectiveness through social interaction and not an individual effort.
Key words: Asymmetry - epistemology- model - scientific theory- holistic transformation.
المؤلف المرسل/د.شادلي هواري
1-مقدمة:
مع ظهور الحركة الفكرية في فلسفة العلوم المعاصرة حاول رواد هذه الحركة بمختلف توجهاتهم الفلسفية معالجة إشكالية بالغة الأهمية في الدراسات الإبستمولوجية المعاصرة
تتعلق بكيفية تطور العلم والياته ومناهجه ومدى مشروعية نظرياته و نتائجه
بحيث استخدمت مجموعة من المفاهيم الأساسية في معالجة هذه الإشكالية من بينها الثورة العلمية
التراكمية
التطورية
الأنموذج
المنهج والنسبية
هذه المفاهيم كلها تم تداولها بين أوساط فلاسفة العلم المعاصرين في أبحاثهم
ويبقى المصطلح الأكثر غرابة والأقل استخداما مصطلح "اللامقايسة" والذي يكاد يقتصر استعماله لدى بعض فلاسفة العلم أمثال "توماس كون" و"بول فيرابند"
رغم أنه مصطلح مركزي وأساسي يعكس القيمة الفلسفية للتطورات التي عرفتها فلسفة العلم المعاصرة
والتي تؤكد على حلول الوعي التاريخي في الدراسات الإبستمولوجية المعاصرة ومدى أهميته في معرفة التطورات التي عرفها العلم عبر تاريخه
فجاء هذا المصطلح ليشير إلى التحولات الكبرى التي حدثت في العلم والتي بينت أن العلم قائم على النزعة الثورية الداعية للانتقال من أنموذج إلى أخر
ومن جماعة علمية إلى أخرى
فالجماعة العلمية التي تعمل في الأنموذج الجديد لا تشترك في أي شيء مع الجماعة التي كانت تعمل في إطار الأنموذج القديم ومن ثم لا مجال للمقارنة بين النظريات
فالخطاب العلمي لا يمكن حصره في نموذج واحد يدعي لنفسه التفوق عن باقي النماذج الأخرى
بل هو خطاب علمي له خصوصيته يختلف عن الخطابات العلمية الأخرى
فالحقائق العلمية الجديدة تحمل دلالات تختلف عن تلك التي كانت تستخدم في النموذج العلمي السابق
مما يوحي بأن النماذج العلمية مجرد فرضيات تعتمد على نسقيه معينة تحمل مصداقيتها ومعايير صدقها داخل التناغم المنطقي الذي يتبناه النموذج
لذلك تكمن أهمية فكرة اللامقايسة في تكريس البعد التاريخي و الوعي به في الدراسات الإبستمولوجية
هذا الطرح تجسد بصورة قوية في التوجه النسبي الذي جاء كرد فعل للتصورات المغلقة والتي جعلت من المنهج العلمي المسلك الوحيد لقيام النظرية العلمية سواء اتجاه الوضعية المنطقية التي تبنت الاستقراء كمنهج و التحقق التجريبي كمبدأ في بناء النظرية العلمية
أو المنهج البوبري الاستنباطي القائم على النزعة التكذيبية. من هنا يدفعنا البحث للتساؤل عن الدلالات المختلفة لفكرة اللامقايسة
وأبعادها الفلسفية والعلمية لدى فلاسفة العلم المعاصرين.
ولتحديد الملامح الأساسية لفكرة اللامقايسة
ومعرفة مواصفاتها ومعانيها المختلفة سوف نتناول المقال من خلال الفرضيات التالية:
معني اللامقايسة؟ و ما الفرق بينها و بين المصطلحات المشابهة لها مثل فكرة لا تحديدية الترجمة أو لافرزية المرجع والتي قال بهما "كواين" أو بعدم القابلية للرد و التي جاء بها هانسون و فكرة القطيعة عند بشلار؟
هل فكرة اللامقايسة هي نتاج فلسفي للتوجه العلمي المعاصر القائم على نظرية النسبية؟ وهل أخذت معني واحد في كل من تصور توماس كوهن وبول فيرابند؟
الهدف من وراء هذا البحث تسليط الضوء على فكرة اللامقايسة باعتبارها فكرة جديدة ومعاصرة لها دلالات فلسفية وعلمية تكمن في تعدد الأنساق المعرفية واختلاف مناهجها و نظرياتها التي لا تقبل المقايسة فيما بينها
فكل نسق يحمل وحدة منطقية مستقلة عن الوحدات المنطقية للأنساق الأخرى
فالمنافسة قائمة بينهما من منطلق مراعاة النتائج المتوصل إليها من طرف كل نظرية في تقديم تفسير يقربنا أكثر من فهم الواقع
ويبقي هذا الفهم مشروعا يحمل مصداقيته داخل نسق خاص بالنظرية فقط ولا يصدق على باقي النظريات الأخرى
مما يتيح لأكبر عدد من النظريات من المشاركة في بناء المعرفة العلمية و لا يقتصر ذلك على مجال البحث العلمي
بل يمكن الاستفادة من فكرة اللامقايسة في مجال الحياة العامة خاصة السياسية منها إذ يمكن التعايش مع مختلف الأفكار والإيديولوجيات في ظل احترام متبادل و تنافس شريف قائم على تقديم أفضل البرامج و الإستراتيجيات دون إقصاء أو تعنيف
فلا يمكن الحكم على تصور سياسي معين من خلال مقايسته مع تصور مخالف له. كما لا يمكن الحكم على تجارب غيرنا من خلال تجاربنا الخاصة لأن المقاييس تختلف
فالتعدد يعطي نتائج ايجابية ويفتح أفاقا واسعة للإبداع في جميع المجالات. لذلك استخدمنا المنهج التحليلي قصد معرفة الدلالات الفلسفية لفكرة اللامقايسة عند فلاسفة العلم المعاصرين. ولغرض معالجة هذه الإشكاليات بمختلف استفهاماتها
حاولنا تنظيم هذا العمل من خلال توزيع مواد هذا البحث وفق المنهجية التالية:
أولاً :مقدمة تطرقنا من خلالها إلى أهمية فكرة اللامقايسة في الدراسات الإبستمولوجية المعاصرة خاصة التوجهات النسباوية مع كل من توماس كوهن و بول فيرابند.
ثانياً :معني اللامقاسة حددنا فيها مفهوم اللامقايسة ومعانيها المختلفة
ثالثاً: الإرهاصات الأولي لفكرة اللامقايسة
واحتوي هذا العنصر على مجموعة من التصورات لفلاسفة العلم المعاصرين.
1- بيير دوهيم
2- ويلارد كواين
3- هانسون
4- غاستون بشلار
رابعاً: اللامقايسة في فلسفة توماس كوهن.
4-1:اللامقاسية واشكالية تطور العلم
4-2:من اللامقارنة إلى اللامقايسة
4-3: تجلي اللامقايسة في المنهج الأكسيومي
خامساً : اللامقايسة في فلسفة بول فيرابند
تناولنا فيه العناصر التالية
1-علاقة الملاحظة بالنظرية
2-علاقة النظرية بالخبرة و التجربة
3-علاقة النظرية العلمية بالدلالات اللغوية.
سادساً: خاتمة واحتوت على نتائج البحث.
2-المعني اللامقايسة:
تشير الكلمة من الناحية اللغوية "عدم القدرة على تقدير الشيء بمثاله" . وبحسب المعجم الفلسفي
ما لا يقاس عليه تطلق على الفريد في بابه وما لا يقارن بغيره حكماَ واستنباطاَ .
أشار "لالاند" في موسوعته إلى المصطلح بعبارة مالا يقاس((incommensurable ويقصد به ما ليس له قياس مشترك مع حد أخر
" فخط زاوية المربع هو بلا قياس مشترك مع الضلع" .
حسب دليل أكسفورد للفلسفة عبر عن المصطلح باللاقابلية للقياس فالنظريات غير القابلة للمقارنة غالباَ ما توصف بأنها غير قابلة للقياس وفق الوحدات نفسها
لتوضيح ذلك قدم بناصر البعزاتي مثالاً في كتابه البناء و الاستدلال مفاده " إن مساحة المربع المنشأ على الضلع الأكبر لمثلث قائم الزاوية
تساوي مجموع مساحتي المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين
وبه يكون مربع الضلع الأكبر مساوياَ لمجموع مربعي الضلعين الآخرين
لكن الحساب الإغريقي القائم على تصور للأعداد الطبيعية الموجبة فقط دون الصفر
لا يمكن من الحصول على الجدر التربيعي للأعداد كلها
لذا اعتبر الحساب والهندسة ميدانين متغايرين لا تحكمهما المقاييس نفسها"
إن مصطلح اللامقايسة تم تداوله بين أوساط فلاسفة العلم المعاصرين
إذ عبر "توماس كوهن" عن هذا المصطلح بعبارات واضحة مبينا معناه الحقيقي" فاللامقايسة هي : "عدم قابلية النظريات العلمية للقياس المتكافئ للحكم عليها بالمقاييس نفسها
وتقييمها بالمعايير نفسها. لكل نظرية إطارها ومفاهيمها وعالمها
حتى أن الحوار بين نظريتين في مرحلتين مختلفتين أي نموذجين إرشاديين متعاقبين هو بمنزلة حوار بين الصم حيث لن يسمع أحدهم الآخر"
3-الإرهاصات الأولى لفكرة اللامقايسة:
الكثير من المفاهيم المتداولة في حقل فلسفة العلم لها امتدادا تاريخيا تعود للفترة الإغريقية
مثل مفهوم الإبستمولوجية أو التجربة و الملاحظة
بينما نجد مصطلح اللامقايسة مقارنة بالمصطلحات المستخدمة في فلسفة العلم يفتقر لهذه الميزة فهو مصطلح كثر استخدامه في الفترة المعاصرة بين أوساط فلاسفة العلم فما هي الإرهاصات الأولي للمفهوم وما المصطلحات المشابهة له؟
3-1-تصور بيير دوهيم:
لعل أول من نادي بفكرة التحول الشمولي هو العالم الفرنسي "بيير دوهيم"* (pierre Duhem)(1861م-1916م)
وهو أحد علماء الديناميكا الحرارية المعاصرين
له إسهامات متعددة في نظرياتها
اهتم في مطلع شبابه
بتاريخ العلم وله مؤلفات في فروع الفيزياء الرياضية
ينتمي إلى النزعة لا استقرائية
حيث أكد أن التجربة الواحدة تنصب على مجموعة منفصلة من الأحكام
وليس على أحكام مفردة
ويتم ذلك داخل نسق النظرية العلمية .
فكل نظرية علمية لها نسقها الخاص
وأي تحول فهو يشمل كل النسق
ويحدث تحولا في مكونات البناء العلمي بصورة شاملة
فيحدث التغير في كل الأشياء في الخصائص والعلاقات والأبعاد
فالجهاز المفهومي الجديد يقدم أخبارا ويكشف عن خباياه ويؤطرها خلافاَ للجهاز المفهومي القديم
ونتيجة لهذا الانسجام في النظرية العلمية
فإن الفرضيات التي تختبر تمثل اختبارا للنسق بأكمله
وأي خلل منطقي يمس الفرضية المختبرة وينعكس على نسق النظرية.
يؤكد دوهيم أن الوقائع الطبيعية تحمل حقائق لا يمكن للنظرية الفيزيائية الوصول إليها
فهي تكتفي فقط بالتصنيف الآلي للقوانين العلمية ولا يمكنها أن تقدم تفسيرا حقيقيا لجوهر الظاهرة الطبيعية
وإن كان هناك تفسيرا فهو مجرد تأويل لا يخلو من الطابع الميتافيزيقي
وهذا لا يخدم النظرية الفيزيائية القائمة على استمرارية التجارب
فيفصل بين التجربة العلمية القائمة على الدقة و الملاحظة التي تمكن العالم من تشكيل فرضيات ونظريات يتم اختبارها واقعيا وبين التجربة العامية القائمة على الحس المشترك والتي تعتمد على شهادة الحواس لا غير.
رغم إشادته بأهمية التجارب المستمرة إلا أنه يرفض التجربة الحاسمة فهي تحدد صلاحية النظرية العلمية لمدة معينة
لكن لا يمكنها أن تكون معيارا للحكم على صحتها من خطئها مما يفتح مجال مستقبلي لمناقشتها مجددا كلما ظهرت مستجدات أو تفسيرات مخالفة. فالنظريات الفيزيائية وإن كانت تتميز بنوع من الدقة
فهي دقة تقريبية وليس مطلقة وثابتة مما يجعل العلم في تطور مستمر على نسق تقاطعي
وهذه القطيعة تشمل جوانب متعددة من بناء النظرية كالقطيعة بين الحس المشترك والعلم و القطيعة بين اللغة العامية و اللغة العلمية
لأن عامة الناس لا يدركون الحقائق العلمية ولا الظواهر الطبيعية على حقيقتها
ولذلك لا يمكن مقايسة المعطيات العلمية على أساس معارف عامية. رغم انه يؤكد على وجود تشابه بين النظريات العلمية
دون سابق اتفاق بين روادها.
اهتم دوهيم بتاريخ العلم وأدرك أهميته في معرفة كيفية تقدم العلم إذ يري أن النظريات العلمية تنشأ وتنمو لتصل إلى القمة تم تزول لتحل محلها نظريات علمية أخرى تقدم وصفاً مغايراً يحدد كيفية العلاقات بين الظواهر. فلا يمكن القول بالتجربة الحاسمة
"فالنظرية العلمية عنده تعتمد على المنطق في ترابط الفروض
إذ يري أن النظرية العلمية تمدنا بنظام صوري عام لضم عدد كبير من القوانين الجزئية وهي بهذا بنية من كيانات مجردة
ليست وصفا ولا تفسيرا لوقائع العالم التجريبي
بل هي مجرد أدوات اصطلحنا عليها للتنبؤ
صيغت لتكون أكفأ وتنبؤاتها أدق
كل ما يبدو وصفا هو مجرد تعيين لعلاقات تجعل التنبؤ أسهل وأدق
أما التفسير فليس له قيمة ولا دور
مهمة العلم تنحصر في تحديد العلاقات بين الظواهر" .
فاللامقايسة في فلسفة دوهيم قائمة على عدم إمكانية قياس التجارب على النظرية
فما تحمله النظرية من تناغم منطقي مبني على الفهم وليس على التفسير لواقع التجربة
فالنظرية العلمية تحمل مصداقيتها من خلال البناء النظري القائم على التفسير المنطقي
فهي نتاج عقلي علمي قائم على الإبداع من منطلق العمليات المنطقية
ولا تعود في بنائها للواقع التجريبي و الذي يقتصر دوره على الجانب الاستشاري فقط ليبين و يحدد أفضل الفروض الممكنة و الملائمة
لذلك لا يمكن اعتبار التجربة مؤشر لقياس مشروعية النظرية العلمية
يفهم من هذا أن النظريات العلمية لا تعكس الواقع
بل هي مجرد أدوات واصطلاحات تربط بين الظواهر.
يشير دوهيم إلى أهمية ودور الرياضيات في بناء النظرية العلمية
فالرموز الرياضية تحدد العلاقات بين الظواهر أثناء طرح الفروض العلمية والتي هي نتاج لدور العقل الرياضي
فمن خلالها يمكن الوصول إلى نتائج نفسر بها الظاهرة الحسية
فالقوانين العلمية لا تظل دائما صحيحة لأنها تخضع لتفسير مؤقت زمني
ثم تزول ليحل محلها تفسير أخر.
3-2- تصور ويلارد كواين:
اهتم "كواين" بالفلسفة والمنطق
درس بجامعة هارفارد وكانت له إسهامات في فلسفة العلم
حدد من خلالها العلاقة بين النظرية والتجربة إذ يؤكد على قصور تحديد النظرية من طرف التجربة
حيث بلور هذه الفكرة في سـياق نقده للتـصور التجرباني في تحديد العلاقة بين النظرية والعالم الواقعي. فالملاحظة والتجربة لا يمكنهما أن تقدما لنا معلومات كافية حول العالم
لأنهما إجراءان محدودان في الزمان والمكان
لذا نلجأ إلى البناء المفهومي الذي يمثل نسيجاً من العلاقات المتداخلة والمتشابكة تتحدد من خلاله لغة النظرية
والتي لا تقبل الترجمة إلى نسق آخر
وهذا راجع الاختلاف النسقين
يسميه "كواين" "بلاتحديدية الترجمة" وهي فكرة تقترب من مفهوم اللامقايسة
يؤكد من خلالها عدم وجود ترجمة حقيقية مطابقة للأصل من لغة إلى أخرى
فالنظريات العلمية هي مجرد خطابات قائمة على لغة لا تعكس حقيقة الواقع
وبالتالي لا يمكن قياس الواقع بالنظرية المحملة بتأويلات خاصة تلك الناتجة عن التنشئة الثقافية و الاجتماعية. لذلك فالنظرية هي مجرد خطاب قائم على دلالات لغوية لا تعكس حقيقة الواقع
ومهما كان الخطاب متماسك ويبدو منطقيا فلا يمكنه أن يحدد ويتعرف عن جوهر الشيء الموجود
فالخطاب العلمي للنظرية يقتصر فقط على تحديد العلاقة بين العبارات العلمية للنظرية والواقع
لكن ليس الواقع كما هو بالفعل بل الواقع كما تراه النظرية
فمعلوماتنا عن الواقع تأتي فقط من خلال التأثيرات الحسية الضئيلة والتي لا يمكنها أن توفي بالغرض للوصول إلى المعرفة الحق
فمعظم جملنا ليس لها أثار في الواقع
فالمصطلح المستخدم في العلم غامض و المعاني التي تقدم لتفسيرات الواقع لا تخدم العلم بل تعيقه
لأن ما تقدمه المعاني هو مجرد وهم لا يعكس حقيقة العلم
فالترجمة لا تعبر عن جوهر الوقائع بل تحمل خطاطات مفهومية تحمل حمولة ثقافية تجعل لغة المترجم تسيطر على لغة الغير
وعليه فإن عملية الترجمة لا يمكن أن تؤخذ كمقياس لمعرفة حقيقة الواقع
فكل لغة تتميز بخصائص مورفولوجية وتركيبية
تجعلها تقطع الواقع الأنطولوجي بشكل خاص .
هذه الدعوى تقودنا إلى فكرة أخرى تقترب كذلك من فكرة اللامقايسة يسميها "كواين" "بلا فرزية المرجع "حيث لا يوجد تطابق في المرجع بين الأنساق المفهومية لأن دلالة الألفاظ على المدلولات تتغير بفعل التداول" . فلا يمكن ترجمة بعض الجمل بأكثر من طريقة وتعبر الفكرتان عن عدم القدرة على الفصل في صواب البناءات المفهومية بكيفية نهائية
لأن كل حكم ينصب على واقعة ما
ولا يمكنه أن يدعي استيفاء الواقعة في الصميم
فكل حكم ملتزم بالإطار النظري الذي يندمج فيه
ولا يقبل المقايسة مع أنساق أخرى.
3-3-تصور هانسون:
وجدنا هناك تقارب بين تصور "كواين" و تصور "هانسون" فالفكرة نفسها أشار إليها "هانسون" عندما عالج علاقة النظرية بالملاحظة
وعبر عنها بعدم القابلية للرد
حيث بين أن كل ما يدرك وما يرى إنما محمل بالنظرية
ولا يخرج عن إطارها
ومن ثم فإن الحدود جميعها تتوقف على الإطار النظري الخاص بها
والتي لا تقبل الرد إلى نظرية أخرى لها حدود خاصة بها
فالنسيج الثقافي يحدد ذهنية الذات المدركة ويحدد الأفق المعرفي و الدلالي داخل هذا النسيج ولا يقبل المقايسة مع نسيج ثقافي مخالف. والانتقال من نمط مفاهيمي قديم إلى آخر يستتبع تغيراَ في البنى المعرفية والخلفية المفاهيمية
والعادات السيكولوجية
والقيم السوسيولوجية
والعقائد الأيديولوجية
وكذلك معاني الحدود العلمي فإذا وقف شخصان ينتميان غلى تقليدين ثقافيين أو أسلوبي تفكير مختلفين إزاء واقعة طبيعية
مثل الكسوف أو حضارية مثل الكهرباء فإنهما لا يؤولان ما يجري أمامهما بنفس التفصيل
إذ ينتبه أحدهما إلى جزئيات لا ينتبه إليها الأخر
ويعطي لجانب من الواقعة دور السبب بينما يعتبره الأخر عنصرا ثانويا فكل وصف مطبوع بالتقليد الثقافي الذي ينتمي إليه أو بأسلوب التفكير الذي يأخذ به الواصف لفهم العالم"
تبدو النظريات ذات الأنماط المفاهيمية المختلفة "لاقياسية"
"بما يعني أنه لا يمكن إجراء مقارنة بينهما على أسس منهجية
لأن اللغات المتضمنة فيها مختلفة
ولأن القضايا تحصل على قوتها من النسق اللغوي الذي تصوغه بأسره" . ففي نظر "هانسون" أن "كبلر" و"تيكوبراهي" عندما وقفا ينظران إلى الشمس
فإنهما لا يكونان الأفكار نفسها عن الشمس في علاقاتها بالأجرام السماوية الأخرى
حيث يعتبر "كبلر" الشمس مركز النظام الذي يحيط به
وتدور حوله الأجرام
ويعتبر "تيكوبراهي" الأرض في مركز هذا النظام
وذلك على الرغم من أن المجال الطبيعي الذي تقع عليه حواسهما واحد
وذلك لاختلاف النماذج والأنساق الثقافية والمعرفية
فالناس هم الذين يـرون وليـس العيـون فنشاط العين يتم بناء على حساب وقصد وتوقع
تحت إمرة العقل" .
3-4-تصور غاستون بشلار:
فكرة اللامقايسة تكاد تأخذ نفس المعني لمفهوم القطيعة عند "غاستون بشلار"
فهي مفاهيم تعبر عن الانفصال في تقدم العلم
وترفض الاستمرارية والاتصال التراكمي الذي كان سائداَ في القرن التاسع عشر
وهي تعبير عن قطيعة فاصلة بين نمطين
نمط قديم ونمط حديث في التفكير والتجريب
ويؤكد ذلك في كتابه الفكر العلمي الجديد قائلاَ: "ولإدراكنا الطابع التجديدي الذي يتميز به الفكر المعاصر الفكر العلمي الجديد يكفينا أن نجري مقارنة بين مثالين
الأول نأخذه من فيزياء القرن 18أوالقرن19 والثاني من فيزياء القرن 20. بهذه الكيفية سنرى أن الفيزياء المعاصرة تتمثل أمامنا بطابعها التجديدي الأكيد ليس فقط في تفاصيل المعلومات ولكن أيضاَ في البنية العامة للمعرفة" .
يرفض بشلار العلاقة القائمة على أساس الاتصال فنسق "نيوتن" يختلف عن نسق "اينشتاين" بمعنى أن هذا الأخير ليس حاصلا للتطور السابق
فبمجرد البدء والانطلاق في منظومة النسق الجديد يقتضي التخلص من النسق السابق نهائياَ وبالتالي لا مجال للمقايسة بينهما
فتاريخ العلم في نظره ليس ترابط تسلسلي اتصالي بين النظريات العلمية
فالبحث عن الأصول التاريخية للنظريات العلمية ليس معناه آن النظريات الجديدة استندت وقامت على هذه الأصول ففيزياء أينشتاين لم تقم على فيزياء نيوتن لأن مجال البحث مختلف تماما وكل واحد منهما ينظر إلى العالم بصورة مختلفة
وهذا خلافا لما دعت إليه التصورات العلمية الداعية إلى النظرة التراكمية الاتصالية في تطور العلم
فالعلم قائم على القطائع فهو ذو نزعة ثورية يتطور في ظل قطع الصلة بالماضي "فالتقدم العلمي يتم من خلال صراع بين الجديد و القديم" .
بالرجوع إلى التطورات التي حدثت في ميدان الهندسة يؤكد باشلار على أن هندستي "ريمان" و"لوباتشفسكي" عرفت نسقا تطوريا بفضل معارضتهما لهندسة "إقليدس"فالهندسات اللاإقليدية تعلن عن قيام فكر علمي أكثر شمولاً لا يمكن فهمه انطلاقا من الهندسة الإقليدية السابقة
لأنها ليست تطوراً له أو تدقيقاً فيه" مما يوحي بعدم وجود أي مقايسة بينهما. لذلك يستنكر التصور القائل بالامتداد التاريخي بين المعرفة العامية و المعرفة العلمية
فالمعرفة العامية لا يمكنها أن تتطور بحكم ارتباطها بالتقنيات التقليدية القديمة
فحينما يتطرق بشلار "لتكوين العقل العلمي عبر سلسة من العقبات
فوجود العقبة أو العائق يؤذن دائما بتحول جديد في المعرفة يعني قطيعة بالنسبة للمعرفة السابقة
هكذا تحدث التحولات ا أساسية التي تطرأ على العلم عندما يعيد النظر في مفاهيمه الكبرى
مما يجعل البنية الإبستمولوجية لفرضية علمية مختلفة تماماً عن بنية الفرضية التالية لها في تاريخ العلم في جدليات ناشطة حقاً" .
يعتبر بشلار أن المعارف السابقة تشكل عائق أمام تطور العلم لذلك وجب القطيعة مع هذا النوع من المعارف و التي لا تقبل أي مقايسة مع المعارف الجديدة
فالنظرية الجديدة تضع لنفسها مفاهيم خاصة بها وطرق بحث مختلف
وهذا راجع إلى أهمية القطيعة التي تمثل الانطلاقة للبحث الجديد
فالإختلالات والمزالق الواقعة في المعرفة العامية لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون منطلق للبحث العلمي الجديد
فالتحول يقوم عن طريق الصراع مع القديم
الذي لا يمكن أن يكون مقياس لنجاح النظرية الجديدة.
فكل التصورات المذكورة سابقاَ سواء فكرة قصور تحديد النظرية من طرف التجربة
وما يلازمها من فكرة لا تحديدية الترجمة
أو لا فرزية المرجع التي تنسجم مع فكرة اللامقايسة
كلها تصب في الاتجاه الداعي للنزعة الانفصالية. وتستند هذه الدعاوي إلى معاينة ظواهر ثقافية
وتقر بالطابع الأنطولوجي للنظرية العلمية
لأن لكل نسق طابعه الثقافي العام الذي نشأ فيه
مما يجعل التفاهم بين الثقافات والحقب التاريخية المختلفة أمرا صعبا
إن لم نقل مستحيلا
وقياس المفاهيم مع بعضها البعض يكون ممكناَ فقط داخل نفس الإطار
ولكنها تصبح مستحيلة القياس مع مفاهيم تنتمي إلى إطار أخر.
4-اللامقايسة في فلسفة توماس كوهن:
يؤكد أنصار العقلانية التجربانية المعاصرة على إمكانية القابلية للمقارنة بين النظريات على أساس وجود علاقة بين البناءات العلمية
ومحاولة تقييمها بمقارنتها مع الأنساق النظرية الأخرى بحيث تقبل المقايسة
وبالتالي هناك علاقة تراكمية تطورية بين النظريات العلمية المتعاقبة
هذا الطرح يخالف ما دعي إليه فلاسفة العلم المعاصر أصحاب الاتجاه النسبي
والدين يؤكدون على عدم وجود علاقة بين النظريات التي لا تقبل المقايسة
إذ يعتبر "توماس كوهن" أول من روج لهذا المصطلح في كتابه " بنية الثورات العلمية " مبيناً أن كل نظرية علمية لها نموذج خاص بها يختلف كل الاختلاف عن النموذج الأخر
سواء من حيث حدودهما العلمية
أو من حيث مشكلاتهما
أو من حيث تنبؤاتهما
أو من حيث معايير الحكم عليهما
بحيث تكون هاتان النظريتان غير قابلتين للقياس
وتبدو أمامهما قطيعة إبستمولوجية
بحيث يستحيل إجراء المقارنة
أو المفاضلة بينهما
على أساس منهجي فلا يوجد أي ترابط بين النظريتين القديمة والجديدة
ويجد العلماء أنفسهم في عالم مغاير فكل جماعة علمية تشتغل في إطار نموذج خاص بها تماماَ. ومن ثم تصبح أكثر القياسـات والمعالجات القديمة غير ملائمة وتستبدل بغيرها
وكان الغرض من تبني فكرة اللامقايسة عند توماس كوهن هو تدعيم نظريته القائمة على تصوره في كيفية تطور العلم من خلال الثورات العلمية
التي تؤدي إلى تغيير شامل للبنية الفكرية للنموذج المعتمد آو ما يسميه كوهن بالنموذج الإرشادي.
4-1:اللامقايسة وإشكالية تطور العلم
إن اللامقايسة ترتكز على فكرة مفادها أن النظرية العلمية الجديدة بمفاهيمها و معاييرها ومصطلحاتها العلمية تنتج قطيعة مع النظريات السابقة التي تم تهديمها من الأساس بسبب عدم قدرتها على تجاوز الأزمة
بمعني أن النموذج الإرشادي السائد أو العلم المعترف به في فترة معينة أصبح عاجزا عن تقديم تفسير عقلاني لظواهر مستجدة
فالقوانين المعتمدة لم تتمكن من تقديم الحل
كعدم قدرة تطبيق الفيزياء الميكانيكية علي عالم الظواهر المتناهية في الصغر.
يفهم من ذلك أن المعرفة العلمية ليست تراكمية بل ثورية
"تطمح إلى تغيير كل ما هو موجود من معتقدات وممارسات علمية
إذ أن الثورة العلمية لا تحافظ على كل ما أنجز في فترة العلم النموذجي
بل سيجد العلم نفسه
الذي يلي الثورة العلمية لا يملك تلك التفسيرات التي فسرت بنجاح الظواهر الطبيعية في الفترة التي سبقت الثورة ... هناك تحولات في الإدراك
يعني أن لا وجود لمجموعة من الملاحظات و المشاهدات التجريبية المحايدة والتي تصلح أن تكون قاسماً مشتركاً لجميع النظريات العلمية نتمكن من خلالها الحكم وتقويم هذه النظريات.
هذه الثورة العلمية تحدث بسبب تغيرات تمس النسق العام للنظرية
وينتج عنها الانتقال من نموذج إلى آخر
وكل نموذج لا يقبل المقايسة مع النموذج السابق أو اللاحق
بحيث لا يمكن اعتماد معايير عامة تتعلق بقواعد المنهج و المنطق لتقييم النظريات
فلكل مجتمع نمط معين من الثقافة ولهذه الأخيرة دور في تطور العلم فكل نموذج يحتوي على شبكة من التصورات و النظريات و الأدوات والمناهج
فهو يمثل المجتمع العلمي ويوجه نشاط العلماء
فالنظريات العلمية تنشأ من خلال التفاعل الذي يحدث بين العناصر السيكولوجية والسوسيولوجية داخل المجتمع
فالتقدم العلمي مرتبط بالنسق الواقعي و الاجتماعي لذلك لا يقبل المقايسة مع نسيج اجتماعي مختلف
فالإنتاج العلمي مرتبط بمرحلة اجتماعية وثقافية
فعندما تحدث الثورات العلمية بسبب الأزمة الناتجة عن عجز الأنموذج في تفسير ظاهرة ما
ننتقل حينها إلى نموذج إرشادي جديد يختلف كل الاختلاف عن النموذج الأول وهذا التغيير يبلغ حد اللامقايسة بحيث يؤدي ذلك إلى تغيرات عميقة في الطابع العام للمجتمع
يؤكد توماس كوهن"إن تغيرات النموذج جعلت العلماء ينظرون للعالم بطريقة مختلف من خلال أبحاثهم واهتماماتهم العلمية
وفي الحقيقة فمن المحتمل أن العلماء بعد الثورة قد تعاملوا مع عالم مختلف تماما عن ذلك الذي عرفوه ودرسوه قبيل هذا التاريخ .
يستند "كوهن" في تحليله لتاريخ العلم
ففي مجال العلوم الفيزيائية مثلا مفهوم الكتلة أو مفهوم الجاذبية عند "نيوتن" يختلف تماماَ عن مفهوم الكتلة أو مفهوم الجاذبية عند "اينشتاين" فلا يمكنهما إذن أن يتحاورا فالحكم على النظرية العلمية وتقييمها لا يكون البتة في عصرها وتحدياتها وظروفها العلمية
وهكذا يمكننا القول أن مفهوم اللامقايسة يشير إلى قدرة هؤلاء المفكرين على إدراك حقيقة تاريخ العلم والوعي به
فالنظرية العلمية تعتبر كذلك
إلا في ضوء الموقع الذي تحتله من تاريخ العلم فلا تضاهيها نظرية أخرى في موقع تاريخي أخر
وعليه فاللامقايسة تشير إلى ذلـك التحول الشامل الناتج عن الانتقال من أنموذج لأخر
والجماعة التي تعمل في الأنموذج الجديد لا تشترك في أي شيء مع الجماعة التي كانت تعمل في إطار الأنموذج القديم
ومن ثم فإنه لا مجال للمقارنة بين النظريات بعضها البعض
بل حتى مفهوم العلم يتغير في خضم هذا التحول
والجدير بالذكر أن هذه الفكرة تبلورت في ظل دراسات سابقة تمثلت في ظهور النزعة الانفصالية القائلة بالتحول الشمولي في النظريات العلمية
خلافاَ للنزعة الاتصالية القائلة بفكرة تراكمية المعرفة.
فكرة اللامقايسة عند توماس كوهن جاءت لتدعيم أنصار الطرح الثوري في العلم الرافض لفكرة التراكمية
فالمفاهيم العلمية الجديدة تأخذ مكان المفاهيم القديمة وتهدم كل النسق العقلاني الذي بنيت عليه النظرية القديمة
فمهما امتلك العلم القديم من أدوات و مصطلحات و آليات علمية في تفسير الطبيعة
إلا أنه وبمجرد حدوث أزمة بسبب عدم قدرة النموذج القديم في مواجهة إشكالات علمية جديدة مستعصية عن الحل
يكون سبب ومبرر في ميلاد نسق علمي جديد لا يقبل المقايسة مع نسق قديم.
4-2:من اللامقارنة إلى اللامقايسة:
فاللامقايسة عند توماس كوهن لا تعني اللامقارنة
ذلك أنه بإمكان المقارنة بين نموذجين مختلفين ينتميان إلى مجال معرفي واحد. فمثلا يمكن المقارنة بين نموذج نيوتن ونموذج أينشتاين لوجودهما في مجال معرفي واحد ميدانه الفيزياء
إلا أن فيزياء نيوتن تقتصر على دراسة عالمنا العادي المألوف ومن منطلقات حسية بينما فيزياء اينشتاين مجالها الميكرو فيزياء أو العالم المتناهي في الصغر وهذا العالم يخضع لقوانين خاصة نسبية لا يمكن لقوانين نيوتن القائمة على الحركة الميكانيكية المطلقة تفسيرها
فنظرية النسبية ليست إضافة للفيزياء الكلاسيكية
ولكنها انقلاب ابستمولوجي حقيقي يزيح من طريقه مفاهيم ومنطلقات نموذج نيوتن القديم
فإن كانت المقارنة بين النموذجين ممكنة بحيث نقارن بين نسقين رياضيين اللذين يعملان على نموذجين
لكن في الوقت نفسه لا نستطيع تخمين أيهما يمتلك مضموناً معرفياً أكثر من الأخر
لأن تخمين وقياس المضمون المعرفي للنموذج ينطوي ضمناً على معايير النموذج ومناهجه ومعاني مصطلحاته و النظرة التجريبية التي ينظر بها إلى العالم
فكيف تجري هذه المقايسة و قد تبدّلت كل هذه المتغيرات من نموذج إلى أخر"
فالمقايسة بينها مستحيلة لأن كل نموذج له طريقة ومنطق خاص في حل المعضلات العلمية التي تواجه الباحث.
إن القوانين العلمية والنظريات المفسرة للطبيعة متغيرة وليست مطلقة فهي إنتاج بشري نشأت في مرحلة معينة وتحت تأثير اجتماعي معين. فالمشكلات التي يعالجها العلم في كل مرحلة مختلفة والحلول تختلف هي كذلك
فتاريخ العلم هو تاريخ صراع وتغيرات تفصل بين مراحل العلم على شكل براديغمات ولكل براديغم قوانين ومفاهيم وأدوات مرتبط بالنظرية و منها تستمد مشروعيتها وليس تاريخ تقدم وتراكمات مسترسلة ونظريات مترابطة.
4-3: تجلي اللامقايسة في المنهج الأكسيومي:
يقصد بالمنهج الأكسيومي ذلك النسق و البناء لمنظومة رياضية يعتمد فيها على المنطلقات و الأوليات والتي تأخذ شكل فرضيات أولية يختارها الرياضي ويستنتج منها قضايا رياضية شريطة عدم تناقضها مع المنطلقات الأولى حتى يتم الحفاظ على الوحدة و التناسق والانسجام الداخلي للنسق الرياضي
والغرض منها إقامة بحثاً رياضياً يعتمد فيها على معايير خاصة. فهو يأخذ صورة منهج فرضي استنباطي. وهذه الصورة تظهر على شكل وحدة منظمة لها قواعد خاصة
لا تقبل المقايسة مع وحدات رياضية مخالفة
فالمنطلقات التي اعتمدها إقليدس في البرهنة على نسقه الهندسي القائم على الأبعاد الحسية في تحديد الشكل الهندسي بحيث جعل من المكان الهندسي مطابق تماما للمكان الفيزيائي واعتبر المستوى مسطح وأن أي نقطة خارج المستوي يمر موازي واحد فقط
وزاويا المثلث لديه تساوي 1800 فإن الأمر يختلف بالنسبة لهندسة ريمان الذي اعتمد على منطلقات مخالفة لتلك التي اعتمدها إقليدس
فالمستوي عنده كروي محدب وأن أي نقطة خارج هذا المستوي المحدب لا يمر أي موازي مما جعل زوايا المثلث تتعدي 1800.
يفهم مما سبق أن الرياضيات المعاصرة التي انتهجت المنهج الأكسيومي اعتمدت على تعدد الأنساق الهندسية واختلاف طرق البرهنة عليها مما جعل كل نسق يحمل مصداقيته في حدود منطلقاته الأولي
بحيث لا يمكن تقييم نسق أو نظرية علمية من خلال معايير اعتمدت في أنساق أخرى مخالفة
فمعايير الحكم على النظريات ليست ثابتة و مطلقة تصلح لكل زمان ومكان بل تتعدد وتختلف من نموذج لأخر
وبما أن المنهج الأكسيومي منهج استنباطي فرضي فإن الاهتمام انصب أكثر على الجانب الصوري المنطقي المجرد
بحيث لا يهتم الرياضيين أثناء استدلالاهم بالتجربة الحسية
وهذا معني أخر للامقايسة بحيث لا يمكن قياس نتائج البرهنة الرياضية القائمة على التناغم المنطقي بالواقع الحسي وهذا ما أشارة إليه فيرابند في تحديد علاقة النظرية بالتجربة
والذي سوف نتطرق إليه في العنصر الموالي.
5-اللامقايسة في فلسفة بول فيرابند
يعد "فيرابند" من أكثر المفكرين دفاعا عن فكرة اللامقايسة
واتخذ هذا المفهوم لديه معاني واسعة شملت جميع العلاقات المتوفرة في البناءات العلمية منها علاقة الملاحظة بالنظرية
وعلاقة اللغة بالدلالات المستخدمة في كل أنموذج علمي إلى جانب علاقة النظرية بالخبرة و التجربة.
5-1:علاقة الملاحظة بالنظرية:
يذهب أنصار النزعة الوضعية العلمية إلى التأكيد على دور الملاحظة الحسية
وقدرتها على فحص الوقائع ومعرفتها وتتبعها قصد بناء نظرية علمية متماسكة
وهذا من خلال مقايسة معطيات الملاحظة مع النظرية فتكتسب النظرية العلمية مصداقية من خلال منطوق الملاحظة.
هذا الطرح يرفضه فيرابند مؤكدا أن النظرية لا تتوقف على الملاحظة
وهذا ضمن تصوره لللامقايسة
بحيث لا يمكن بناء نظرية ولا قياس مصداقيتها من خلال ما يلاحظ
ذلك أن النظرية لا يمكنها التخلص من رواسب الثقافة ووالإيديولوجية
فالشيء كما تحدده النظرية لا يعكس حقيقة واقع الظاهرة المراد ملاحظتها "فدلالة المفاهيم وتأويلها ومنطوقات الملاحظة التي تستخدم هذه المفاهيم
يتوقفان على السياق النظري الذي يظهران فيه
ففي بعض الحالات قد تكون المبادئ الأساسية للنظريتين متنافستين من البناء
بحيث يظهر استحالة صياغة مبادئ إحدى النظريتين بحدود النظرية الأخرى وألفاظها
وينتج عن ذلك أن النظريتين المتنافستين لا تشتركان في أي من حدود الملاحظة الخاصة بكل منهما
كما لا يمكن القيام بالاستنتاج المنطقي لبعض نتائج إحدى النظريتين انطلاقاً من مبادئ النظرية المنافسة
وبالتالي فإن هاتين النظريتين غير متقايستين .
يعارض "فيرابند" الوضعية المنطقية اعتمادها عقلانية تجربانية ترتكز على الشروط المنطقية في البناء العلمي
فالمبادئ المنطقية الأكثر تأسيساً كمبدأ عدم التناقض لا يصلح ليكون حكماً على النظريات
فلا يمكن حصر العلم في قوالب منطقية
"فيرى أن الكثير من الصراعات و التناقضات في العلم ترجع إلى تغاير خواص وطبيعة المادة
وإلى التطور التاريخي غير المتوازي خاصة الحالات التي تتعارض فيها الملاحظة مع النظرية
فإن الميتودولوجيا تعكس شتى عناصر العلم والأطوار التاريخية المختلفة
وفي الوقت نفسه تقيم أحكامها المتقاربة
وهذا يماثل تماماً تنظيم قتال بين بالغ ورضيع والتشدق في إعلان النتيجة- والتي هي بديهية تماما" .
5-2 :علاقة النظرية بالخبرة والتجربة:
من الإشكاليات التي تم معالجتها من طرف الكثير من العلماء
مسألة علاقة النظرية بالتجربة الميدانية ذلك أن الكثير من النظريات لم تعكس حقيقة التجربة الميدانية
بل كانت عبارة عن تأويلات نظرية لا تخلو من الطابع العام الثقافي والاجتماعي الذي نشأت فيه النظرية
ولقد أشار "بيير دوهيم" إلى ذلك عندما بين أن النظريات العلمية ليست تعميمات تحصل بالتجربة
وإنما هي حصيلة تطور تاريخي متصل الأفكار
يؤدي إلى مراجعات مفهوميه شاملة.
من هنا نستشف معنى آخر من معاني اللامقايسة عند "فيرابند" يسير في نفس الاتجاه
يتمثل في "عدم إمكان إجراء مقارنة بين بعض النظريات العلمية ارتكازا إلى الخبرة لأنها تتوقف على النظرية
أو ارتكازاً إلى قواعد المنطق والتي هي نسبية تماماَ
ولا تتفق مع الممارسة العلمية"
ومن ثم يؤكد فيرابند على أن النظرية تحمل حمولة ثقافية تنعكس على الخبرة فيتم وصف المعطيات التي تقدمها الخبرة من منطلق النظرية وليس من منطلق الخبرة الميدانية
من هنا يحدد فيرابند مفهوم أخر للامقايسة بينه في كتاب له بعنوان "ثلاث محاورات في المعرفة":"هي عدم إمكانية المقارنة بين المعارف المـتتابعة التي تنتمـي إلى نماذج مختلفة
فالمراحل التي يمر بها العلم تخاطب مشكلات مختلفة
فالمشكلة تعالج في إطار النموذج
ولا وجود لمقاييس مشتركة لقياس نجاحه"
فما تحمله النظرية من معاني وتصورات لا علاقة له بالخبرة و التجربة الميدانية
فكل نظرية علمية تنظر إلى الواقع بصورة مختلفة
وعليه لا يمكن المفاضلة بين النظريات ولا يمكننا القول بأن نظرية أفضل من نظرية أخرى
ولا منهج أفضل من آخر.
لا يمكن اعتبار التجربة معيار لتحديد مصداقية النظرية وهذا معنى من معاني اللامقايسة عند "فيرابند" فلا يمكن إجراء مقارنة بين النظريات العلمية على أساس التجربة
ولا يمكن تفنيد إحدى النظريات بمقارنتها مع الأخرى
فيشبه النظرية العلمية باللغة الطبيعية
فهي تسوغ الوقائع وتوجهها نحو الأشياء
وحسب مبادئ ضمنية
كذلك النظرية العلمية تنطوي على مفاهيمها الخاصة
وطرقها الاستدلالية المتخفية
مما يجعل النظريات العلمية غير متقايسة
"فميكانيكا "نيوتن" ترى في الطاقة والمكان والزمان خصائص للعالم الفيزيائي
أما النظريات النسبية فإنها تنظر إلى هذه المعطيات بوصفها علاقات فقط .
5-3:علاقة النظرية العلمية بالدلالات اللغوية
حاول البعض من حلقة "فيينا*وفي مقدمتهم "كارناب" إلى توحيد لغة العلوم
ففي مقال له بعنوان "الأسس المنطقية لوحدة العلم" حاول أن يبحث عن القواعد التي تسمح بإرجاع ألفاظ علم تجريبـي إلى علـم آخر
وبين أن الألفاظ الفيزيائية يمكن أن تكون قاعدة ترد إليها جميع العلوم التجريبية
وهذا ما يطلق عليه بالنزعة الفيزيائية عند "كار ناب" هذا الطرح رفضه "فيرابند" مبينا أن دلالات اللغوية مرتبطة بالنموذج الذي نشات فيه وهذا راجع لتأثير القيم و التقاليد الاجتماعية
مستندا كعادته على تاريخ العلم مبيناً أن البناءات العلمية لا تؤسس بالمقاييس نفسها ولا توازن الأشياء بالموازيين نفسها
بل يتم إنتاجها داخل نسق مفهومي معين ومن المستحيل تصور قياس محايد ولغة محايدة ولا مبدأ ثابت الدلالة
ذلك لأن المنظومة المرجعية لكل نظرية تختلف عن الأخرى
فمثلاً المنظومة المرجعية للميكانيكا الكلاسيكية تختلف كل الاختلاف عن منظومة نظرية النسبية
يقول "فيرابند"إن منظومة المفاهيم الجديدة التي تم إبداعها (بواسطة نظرية النسبية) لا تنكر فحسب وجود الحالات والوقائع الكلاسيكية
بل إنها تصل إلى حد أنها لا تسمح لنا حتى بصياغة منطوقات تعبر عن مثل تلك الحالات والوقائع
إن هذه المنظومة لا تشترك مع سابقتها ولو في منطوق واحد" .
لا يمكن اعتماد المقايسة أسلوبا في عقلنة التغيرات العلمية
ولا يمكن الحكم على أي نظرية علمية من خلال النظرية السابقة لها
" إذ لا يوجد مقاييس عقلية للفصل بين نظريات مختلفة سببه عدم وجود أساس مشترك يمكننا من أن نحكم حكماً عقلياً
أو موضوعياً
بشأن أية نظرية أجدر بالتفضيل" .
يبدو أن الغاية من فكرة اللامقايسة هو السماح لأكثر عدد من العقلانيات والمنهجيات من التعبير عن العلم
بل يذهب "فيرابند" إلى أبعد من ذلك حيث يفتح المجال أمام التقاليد اللاعقلانية بالمشاركة في العملية المعرفية
ولا يمكن رفضها من خلال مقايستها مع الأنساق التي تدعي العقلانية العلمية
فلا يمكن رفض اللامعقول من خلال مقايسته بالمعقول وغرضه في ذلك فتح مجال المنافسة بين جميع النظريات و التجارب الإنسانية دون اعتماد مقاييس مشتركة في تحديد المصداقية
ذلك أن "فيرابند" يمثل مرحلة جديدة ما بعد التفنيدية
تتجه نحو النسباوية المعرفية
فقوله باللامقايسة ونقده لكافة الميثودولوجيات
ينتهي إلى هجرة العقلانية لصالح النسبية
وهو في ذلك يدعو إلى الحرية
وإلى تحرر الإنسان
والمجتمع من كل القوالب الجاهزة المفروضة من أي نظام سلطوي.
6-خاتمة:
ما نستنتجه من الاعتقاد في مبدأ اللامقايسة هو أن العلم لا يقوم على نسق واحد مطلق يكون مقياس لكل الأبحاث العلمية ولا يعتمد في تحليلاته على نظرية واحدة يعتقد أن تمثل الحقيقة
فالعلم قائم على تعدد النظريات واختلاف الأنساق العلمية في تفسير الظواهر
فكل نسق له مفاهيمه ومنطقه الخاص يحمل مصداقية مشروعه داخل عالم الخاص به
ولا يقبل أن تقاس صحة نتائجه من خطئها من منطلق نسق مخالف
لأن كل نظرية نشأت داخل إطار اجتماعي يحدد الأسس العامة لبنائها
و بما أن هذه الأطر تختلف فلا تقبل المقايسة بينها بسبب الاختلاف العميق
لكن هذا لا يمنع من وجود تنافس بين النظريات العلمية في تفسير الظواهر الطبيعية و فهمها والكشف عن قوانينها
وهو تنافس عمودي لا يقبل التداخل و لا المقارنة بسبب اختلاف المنطلقات و الأوليات وهذا يؤدي إلى التقليص من إشكالية المقارنة المفرطة بين النظريات والتي قد تشكل عائق أمام تطورات الأبحاث العلمية
فالتعامل مع النظرية يكون داخل النموذج نفسه مما يساعد على فهمها وإمكانية تجاوزها في حالة إخفاقها.
فاللامقايسة تفتح مجال المنافسة بين الباحثين على إنشاء طرق بحثية تعتمد على النسق الفرضي المتخصص
فتعدد النظريات و اختلاف مناهجها ودروبها يطوَر من البحث العلمي ويجعل النظريات العلمية تتنافس فيما بينها قصد تقديم تفسير نوعي قائم على التناغم المنطقي من جهة
و على التعامل الحسي التجريبي من جهة أخري. فكل نظرية تقدم تفسير مخالف للنظرية الأخرى شريطة اعتمادها أسلوب منطقي يجعل مقدماتها تنسجم مع نتائجها
فلا يمكن الحكم على الهندسات اللاإقليدية من منطلق الهندسات الإقليدية
كما لا يمكن الحكم على صحة النظرية النسبية في الفيزياء المعاصرة من منطلق المفاهيم و الأنساق التي اعتمدت في الفيزياء الكلاسيكية.
يمكن الاعتماد على هذا المبدأ في مجالات المعرفية المتعددة منها السياسية والاجتماعية والاقتصادية فتعدد الأحزاب واختلاف الأفكار و تنوعها
ظاهرة إيجابية تؤسس للتعايش بين أفراد المجتمع من خلال التنافس الحر دون إقصاء ولا تعصب
فكل نموذج سياسي له تصوراته الخاصة في كيفية التسيير والتعامل مع الأزمات واقتراح الحلول المناسبة لتجاوزها دون اعتماد معايير موحدة وثابتة في تقييم سلوكيات البشر و أفكارهم.

Publié dans la revue: مقاربات فلسفية

Nos services universitaires et académiques

Thèses-Algérie vous propose ses divers services d’édition: mise en page, révision, correction, traduction, analyse du plagiat, ainsi que la réalisation des supports graphiques et de présentation (Slideshows).

Obtenez dès à présent et en toute facilité votre devis gratuit et une estimation de la durée de réalisation et bénéficiez d'une qualité de travail irréprochable et d'un temps de livraison imbattable!

Comment ça marche?
Nouveau
Si le fichier est volumineux, l'affichage peut échouer. Vous pouvez obtenir le fichier directement en cliquant sur le bouton "Télécharger".
Logo Université


Documents et articles similaires:


footer.description

Le Moteur de recherche des thèses, mémoires et rapports soutenus en Algérie

Doctorat - Magister - Master - Ingéniorat - Licence - PFE - Articles - Rapports


©2025 Thèses-Algérie - Tous Droits Réservés
Powered by Abysoft